الاثنين، 28 سبتمبر 2009

ربنا ما وفقنيش


ربنا ما وفقنيش !!



أجلس في العيادة .. مرتديا الرداء الأبيض (البالطو) .. لا أعلم لماذا يتعتبرونه لون أبيض ملائكي ؟ بينما أعتقد أنه يوحي بالفترة التي يكون فيها ذهنك ( أبيض ) يا ورد !

فقليل من الأطباء الكبار الذين أعرفهم .. يرتدون البالطو !!



******

يدخل عليّ بملامحه التي توحي بفتىً يملك من العُمر مثل عدد أصابع يديه ، لا يظهر أسفل أنفه ذلك الخط الأسود الذي يُوحي بعمل الهرمونات في جسده !

ولكن مظهره يجبرك أن تقول " ثلاسيميا " ! ولونه البرونزي يخبرك عن ما فعله " الحديد " في جسده الصغير النحيل.

ولا تتعجب إن قلت لك أن لديه ثمانٍ وعشرين سنة !!


شاب في الثامنة والعشرين من عمره ، يعني أنه في مقتبل العمر .. ربما كان يتمنى والداه الطيبان أن يكون ولدهما الآن " في حضن عروسته " ، أو أنه الآن يعول نفسه .. وعند كِبَرِهما يكون لهما عوناً في حياتهما.


أمه تلك المرأة الطيبة تحملته منذ شهور عمره الأولى ، وهو ينتقل ما بين طبيب وآخر إلى أن يتأكدوا من تشخيص " الثلاسيميا " لتبدأ رحلة العناء !

لك أن تتخيل معانات الطفل وهو ينتقل للمستشفى في كل شهر ليأخذ كيسا من الدم بدلا من الذي تلََفَ داخل جسده ، ولا تنسَ تلك الحقن التي يطعن بها بطنه لعدة أيام في كل أسبوع لمدة من الساعات لتقوم بإنزال بعض " الحديد " الزائد كيلا يترسب في كل مكان من جسده !!

ليجد نفسه بعد تسع سنوات محتاجا إلى أن ينزع " الطحال " من جسده ! كي يواصل الجزء الثاني من رحلته مع المرض .. مع بعض الرفقاء القدامى : " الحديد " ، ومع أصدقاء جُدد من " العدوى المتكررة " التي رافقته بعد أن غابت عنه رقابة الطحال !!

لا أعلم في الحقيقة أي حنان داخل تلك الأنثى يجعلها تتحمل ابنها خلال تلك السنوات التي لا أبالغ حين أقول إنها سنوات طويلة .. تأتي به أمه إلى العيادة لتكمل معه مسيرته في معالجة مضاعفات المرض التي لا تنتهي .. وهي تخفي دمعتها عنه حتى تحافظ على مشاعره ...

سبقها وهو يغادر العيادة .. ولكن فرار دمعة من عين أمه لفت انتباهي وجعلني أتألم جدا .. وزاد ألمي عندما فاجئتني أن أخته " هناء " هي الأخرى تعاني من " فيروس سي " !! وأنها تكمل علاجها الآن !!

******

دخلت العيادة اليوم بعد غيابٍ دام لأسبوعين.. وإذ بي أرى إحداهن تمر أمامي !

أقلب ذاكرتي يمنة ويسرة ؟ لقد رأيتها من قبل ، لكن لا أذكر أين ؟ ولا من تكون ؟؟

وبعد أن انشغلت بلبس البالطو ومسح العرق الذي يغطيني جبيني، خرج لي العقل الباطن بما خلُص إليه .. بالفعل تذكرت أين رأيتها .. لكن لا أذكر اسمها .. فعلى عادتي أتذكر الوجوه جيدا .. لكن الأسماء تخدعني في بعض الأحيان !


بعد ساعة في العيادة .. أجد صاحبنا " عبد العزيز " ذو الثمانية والعشرين عاما يدخل إلى العيادة ، ومعه الإنسانة التي تذكرت اسمها ساعتها فقط !!

" هناااااااء .. لا حول ولا قوة إلا بالله .. انتي عندك فيروس سي ! .. و أخت عبد العزيز كمان ؟! يااااااه الدنيا صغيرة فعلا " قلت ذلك في سري .. وأنا في شدة التعجب.


******


انتهى يومي .. وفي طريقي إلى المنزل .. قابلت أحد الأصدقاء ، وسألني عن نتيجة هذا العام ، فأخبرته وأنا ممتعض الوجه : ربنا ما وفقنيش ، وجبت جيد جدا في الباطنة بعد تعب السنة الكبير !!


أحسست بغرابة الكلمة !!


" ربنا ما وفقنيش " !! .. تذكرت أدب حبيبي سيدنا إبراهيم – عليه السلام – في سورة الشعراء : ( .. والذي هو يطعمني ويسقين * وإذا مرضت فهو يشفين ) .. كيف أنه لم يقل : أن الله أمرضني !! ولكن وإذا مرضتُ ..



لا أعلم هل أنا متكلف في هذا أم لا ؟؟


لكني بالفعل .. أحسست بـ "قلة الأدب" مع الله عز وجل ، وكيف أننا نتشدق بمبادئ كبيرة .. ما تلبث أن تنهار أمام صخور الحياة الصلبة ..


راجعت نفسي .. وألزمتها أن تقول " ربنا ما كتبليش التوفيق "


درات الأحداث سريعا في ذاكرتي : عبد العزيز – هناء – ربنا ما وفقنيش – ربنا ما كتبليش التوفيق ...


اغفر لنا تقصيرنا يا رب العالمين.